Search In this Thesis
   Search In this Thesis  
العنوان
مفهوم ”التمرد” عند نيتشه وأثره على الاتجاه ما بعد الحداثى /
المؤلف
دسوقي الدولة، صفاء علاء محمد.
هيئة الاعداد
باحث / صفاء علاء محمد دسوقي الدولة
مشرف / محمد يحيى فرج محمد
مشرف / نشوى صلاح الدين محرم
مشرف / محمد يحيى فرج محمد
الموضوع
الفلسفة الحديثة.
تاريخ النشر
2023.
عدد الصفحات
202ص. :
اللغة
العربية
الدرجة
ماجستير
التخصص
فلسفة
تاريخ الإجازة
1/1/2023
مكان الإجازة
جامعة عين شمس - كلية الآداب - قسم الفلسفة
الفهرس
يوجد فقط 14 صفحة متاحة للعرض العام

from 202

from 202

المستخلص

لقد تناولت هذه الدراسة تأثير التمرد النيتشوي في الاتجاه ما بعد الحداثي، وتكمن أهمية هذه الدراسة في إبراز الجانب المحوري من فلسفة نيتشه الموسوم بالتمرد، وأثر هذا الجانب في فلسفة ما بعد الحداثة التي تتأسس هي الأخرى على التمرد ضد المفاهيم الأساسية للحداثة، سواء كانت أخلاقية أو معرفية. كما تكمن أهمية هذه الدراسة في إبراز الجذور النيتشوية لدى فلاسفة ما بعد الحداثة، وعلى رأسهم ميشيل فوكو.
وتهدف هذه الدراسة إلى:أولًا: توضيح انتقال نيتشه من الحياة الطبيعية إلى حياة التمرد،
ثانيًا: معرفة مدى تأثير بيئة الفيلسوف في آرائه وفلسفته. ثالثًا: التعرف على الجانب الموسوم بالتمرد في فلسفه نيتشه، وكيفية تمرده على عصره، رابعًا: التعرف على مدى تأثير نيتشه في فكر ما بعد الحداثة، وبخاصة تمرده الفلسفي، وخاصة تأثر فوكو به، خامسًا: توضيح مدى سعي نيتشه إلى تحرير الفرد من كل القيود الأخلاقية، والدينية، والميتافيزيقية، والسياسية.
وقد تحققت هذه الأهداف من خلال الخطوات الآتية:
المقدمة، تناولت أهمية الدراسة وأهدافها وأشكالياتها والمنهج الذي اتبعته الباحثة والتبويب، الذي اشتمل على أربعة فصول:
الفصل الأول:” مفهوم التمرد عند نيتشه”، وهذا الفصل ينقسم إلى عدة نقاط تتناول مايلي: التمرد في فكر نيتشه، والتاريخ بوصفه جينالوجيا، والعدمية والتمرد عند نيتشه، وأخيرًا النتائج العامة للتمرد النيتشوي.
الفصل الثاني: ”تمرد نيتشه على الأخلاق والقيم التقليدية”، وهذا الفصل يعرض التمرد على الأخلاق والقيم السائدة عند نيتشه، وإرادة القوة وإعادة تأسيس الأخلاق والقيم، والإنسان الأعلى والتمرد على المسيحية، وأخيرًا، نيتشه والتمرد على الإلوهية.
الفصل الثالث: ”أثر نيتشه في تيار ما بعد الحداثة”، وينقسم بدوره إلى عدة نقاط تتناول الآتي: مفهوم مابعد الحداثة،ونيتشه ومابعد الحداثة، وأثر نيتشه على الفلسفة الغربية المعاصرة، وأخيرًا الخصائص المرتبطة بمفهوم مابعد الحداثة.
أما الفصل الرابع والأخير: ”نيتشه وتصورات ما بعد الحداثة عند فوكو، وينقسم الفصل إلى عدة نقاط تتناول الآتي: مفهوم الجينالوجيا، إرادة القوة عند نيتشه وعلاقتها بالسلطة والمعرفة/الحقيقة عند فوكو، مفهوم السياسة الحيوية لدى فوكو وفلسفة الحياة عند نيتشه.
خاتمة البحث: قدمت الخاتمة مدى تأثير فكر نيتشه التمردي في الاتجاه ما بعد الحداثي،وفي الفلاسفة ما بعد الحداثيين وبخاصة ميشيل فوكو، وعرضت ما توصلنا له من نتائج، بالإضافة إلى ثبت المصادر والمراجع العربية والأجنبية.
وفيما يلي نقدم النتائج التي توصلت إليها الدراسة:
أولًا:توصلت الدراسة إلى أنحياة نيتشه أثرت في آرائه وأفكاره الفلسفية وفي تمرده، الذي يعده تحرير الذات من الخوف والسعي نحو بناء أسس جديدة يعتمدها الفكر الذي يتصف لديه بالحرية، وفي تمرده لم يكن يسعى إلى بناء مذهب فلسفي، ولم يخاطب العقل وحده، لذلك جاءت شذراته صاعقة، فأثارت الأسس الوجدانية للمعتقدات والأفكار. فأصبح من الواضح أنه لا يمكن حصر فكره وفلسفته ضمن ترتيب نسقي، فهو فيلسوف بلا نسق أو مذهب، ولا يكتب لمعاصريه بل لجيل سوف يأتي بعد، ويتمتع أسلوبه بقيمة أدبية عظيمة، فرغم سهولة قراءة مؤلفاته فإنه من الصعب فهمها بسبب أسلوبه الرمزي؛ حيث ينتمي أسلوبه للتفكير الحدسي الذي يقوم على استخدام الصور والرموز، وتعد أفكاره منجمًا من الأفكار العميقة لذلك كان تأثيره متنوعًا وفي اتجاهات شتى. كذلك أدت الأزمات التي عاشها نيتشه في حياته دورا كبيرا في تحفيز عبقريته وفي تغذية روح التمرد لديه، هذا بخلاف المشكلات التي عاصرها، حيث لا يستطيع الفيلسوف أن يتجاهل مشكلات واقعه وتحديات هذا الواقع، وإذا كانت نسبة حضور مشكلات مجتمع الفيلسوف في نتاجه الفكري تتفاوت تبعًا لعوامل متعددة، فإن نسبة حضور مشكلات المجتمع والعصر كبيرة جدًّا في نتاجه، وقد ترك عددا كبيرا من الأعمال التي تعبر عن تمرده.
ثانيًا: توصلت الدراسة إلى أن تمرد نيتشه على التاريخ كان بسبب أن الطابع الذي يطغى في مجال فلسفة التاريخ وهو الطابع الديني ممثلًا في المسيحية مظلةً لليهودية، ففند التاريخ وذكر أنه محكوم بإرادة عليا خارجة عن نطاق الإنسان، وهذا يعده هروبا وانحطاطا. والحقيقة التاريخية لديه تقوم على فكرة أن الرب هو الحقيقة والحقيقة في مضمونها ربانية، ومن ثم فإن الرب هو العقل، ثم يتجه بعد ذلك إلى نفي الإرادة الإلهية، وإبعادها عن التأثير في مسار التاريخ.
أما الصيرورة فهي نتاج تعدد الإرادات، وترجع إلى مفهوم ”إرادة القوة” التي تمثل كل شيء في هذا العالم، وكل معنى إنما هو إرادة قوة، وهذا معنى التاريخ الذي يعبر عنه نيتشه. وأما العدمية فهي بمنزلة أعظم حدث عرفه الغرب الحديث؛ لأن ظهورها كان إيذانا بحدوث انعطاف جذري في التاريخ الغربي، ولن يعود الغرب مركز الكون ومهد الحضارة الإنسانية ومحورها.
والعدمية التي يعاني منها الغرب ليست منحصرة في المظاهر الفكرية أو الثقافة وحدها، بل هي ظاهرة شاملة تطول كافة المستويات، وتضرب بجذورها في أعماق المدنية الحديثة، والعدمية تعني الطابع الإنكاري لإرادة الحياة، وهيمنة صفة النفي على إرادة القوة، ويمكن التمييز في العدمية بين أربعة أشكال، هي: العدمية السالبة والارتكاسية والسلبية والفاعلة، ويعد نيتشه العدمية الفاعلة إيجابية وفاعلة وينتمي إليها، وقد ذكر أنها حينما تدرك على هذا النحو تصبح ذات مفعولٍ تطهيريٍ يمكنها من تصعيد المظاهر، ويمكن أن تشكل فضاء جديدا للتفكير،وإمكانا جديدًا للحياة والوجود.
ثالثًا:أن الفكر الموسوم بالتمرد عند نيتشه جعله يتبنى فكرة القوة في مختلف صورها، فكان ينادي بفكرة الأمة الشاملة أو القومية التى لا مكان فيها للضعفاء والأغبياء، كما تبنى فكرة الحرب سواء بين الأقوياء والضعفاء، أو بين الأقوياء وبعضهم، حتى يتم تصفية غير القادرين على تحمل هذا الصراع، وهكذا حتى نصل إلى أقوى فئة وهي صفوة الصفوة. فقد دعا نيتشه إلى رفع شعار : ”كن نفسك ولاتكن غيرك”، وقد نادى برفض الإنسان لكل الأشياء التي يرثها والتي تربطه بالآخرين، وأن يحطم القيود والأعراف والعادات والتقاليد، وأن الإيمان بهذه الأشياء يعوق تحقيق الذات، كما كان يدعو إلى أن يكون الزواج محكوما بقواعد من أجل تحقيق نسل أفضل، ويرتبط التطور من وجهة نظره بفكرة صراع القوة، ولا مكان للضعفاء في هذه الحياة.
رابعًا: توصلت الدراسة إلى أن نيتشه أراد من خلال تمرده الكشف عن السر الأخلاقي للفلسفة، واستخدم النقد الجينالوجي لتحطيم المسلمات والقوالب الفكرية المطلقة التي تتجاهل الوجود الفردي والإنساني، وتلك المفاهيم في رأيه اتخذتها التيارات الفلسفية التي سادت في العصر الحديث كشعارات للدلالة على شرعيتها وأصالتها، وسيطرت على العقل الغربي منذ أمد طويل.وبموجب هذه الهيمنة صيغ تاريخ الفكر الفلسفي الغربي بنوع من المراوغة والخداع، الذي وصل في الفترة الحديثة إلى نهاية مساره منتحرًا بالقيم الناتجة عن هذه المذاهب التي تؤله المطلقات، وتجعل منها قيمة أساسية للحياة. فقد وصف أخلاق أوروبا بأخلاق القطيع، أما هو فيعد الأخلاق قضية الإنسان القادرة على تحقيق إنسانية أمثل، وقد أكد أنه لا توجد أخلاق مطلقة، ولا توجد حقائق أخلاقية ثابتة، والقضية الرئيسة بالنسبة له هي عدم وجود ظواهر أو وقائع أخلاقية، لكن يوجد فقط تفسير أخلاقي لتلك الظواهر. فقد رأى نيتشه أن الأخلاق الواحدة للجميع تعني الإضرار بالإنسان الأعلى تحديدًا، ونادي بما دعاه ” اللا- أخلاقية ”، ولم يقصد بها التحلل من الأخلاق كلية، بل كان يقصد التأكيد على ضرورة حمل النفس على التحرر من سلطة الأخلاق السائدة عند دراسة تاريخ الأخلاق ونقد القيم.
خامسًا: اتضح أن نقد نيتشه للدين قائم على معرفته التى حصلها بنفسه، ولم يكن نقده مؤثرا فقط بسبب براعة حججه، ولكن أيضًا بسبب حيوية لغته وثراء وروعة بلاغته. فقد كتب نقدًا وفيرًا وحادًّا للمسيحية، وفى النهاية قدم نفسه على أنه ”عدو المسيح” الذى وجه الضربة القاضية للمسيحية، قاصدا أن ينتزع هذه الديانة مرة واحدة وللأبد، فاعتمد على منطق المطرقة لتحطيم الأصنام، والأصنام عنده جميع المثل العليا القديمة والحديثة، سواء كانت باسم الدين أو باسم الميتافيزيقا، أو حتى باسم جميع الأيديولوجيات التقدمية التي تريد إخضاع الحياة لقيم متعالية، باسم العقل أو الأخلاق أو التاريخ؛ ومن هنا تناول مفهوم الإنسان الأعلى، الذي يعده مصدر التقويم، ولكنه فوق كل تقويم، ومهمته الأساسية تتمثل في أن يكون خالقًا للقيم، ولا يهمه أبدًا حكم الناس عليه ” خيرًا أو شرًّا ”؛ لأن كل القيم من صنعه، وهو لا يتلقاها من أحد، ذلك هو حال الفيلسوف الذي يريده. فالقيم التي يقترحها يجب ألا تخرج عن المحايثة، بمعنى أنها لا ينبغي أن تصدر إلا من صلب الأرض، وألا تعلوأبدًا على الحياة، وعلاوة على ذلك فإن نيتشه ينشد ضربًا من الأبدية ليست مثالية تتم بعد الموت، بل أبدية محايثة يمكن بلوغها. إنها الجنة الموعودة في الأرض.
سادسًا: توصلت الدراسة إلى أن إعلان نيتشه لموت الإله يمثل حدثًا بارزًا في العصر الحديث، وهو ما يعني فقدان القيم الإنسانية وسقوط الإنسان في غياهب الجب، مما يجعل الإنسانية تعيش العدمية، حيث تقوم الحداثة بهدم القيم التقليدية دون طرح قيم بديلة، فاحتمت بظلال الرب أو الإله.
وبذلك أسهم في انتشار الفكر العلماني في القارة الأوربية، فهو برفضه لفكرة وجود الرب والإعلان عن موت الإله، أثر في جميع العلوم الإنسانية التي باتت ترفض إقامة أي دراسة من منطلق ميتافيزيقي، حيث لم يعد يوجد في الغرب تيار فكري أو نظرية مهمة ومؤثرة في أي من الحقول المعرفية تقول بوجود الرب، فتيارات الفكر الغربي الرئيسة أو فلسفاته ونظرياته في العلوم الإنسانية وغيرها ذات شخصية علمانية بالدرجة الأولى.
سابعًا: توصلت الدراسة إلى أن نيتشه أثر في ما بعد الحداثة، حيث عدّ مفهوم ما بعد الحداثة من المفاهيم الأكثر إثارة للجدل؛ لما جاء به من أفكار تتمحور في مجملها حول نقد المرحلة السابقة، وهي مرحلة الحداثة بما تضمنته من نظريات لتفسير الظواهر، كما جاء بتصورات مختلفة عما سبقه بخصوص مفهوم الدولة وعلاقتها بالمجتمع. وأيضًا مكانة الفرد في النسق العام الذي يشكل أحد أجزائه، حيث يتفاعل معه فيتأثر به ويؤثر فيه، وهذا ما أحدث تغييرًا في النظرة الفلسفية للأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وأيضًا الثقافية؛ وهذا يرجع إلى الثورة المعرفية والتطور التقني في مجال نقل المعلومات والمعارف، حيث جعل إمكانية الوصول إليها متاحاً للجميع. وهو يعد مفهوم مابعد الحداثة ظاهرة اجتماعية تتميز بالزيادة التدريجية بالنسبة المعرفية والأخلاقية؛ الأمر الذي يؤدي إلى زوال الاعتقاد بالنظريات التفسيرية الشاملة، وعدم الاعتقاد بأية قيمة مطلقة وسابقة سواء للوجود أو للظواهر التي تفسرها.كذلك زوال الذات الإنسانية المتمركزة وتعويضها بذات منغلقة على نفسها غير متكاملة، وغير قادرة على التواصل مع الآخرين خارج نطاق ماهو مفروض عليها من طرف المركز التابعة له، فتصبح المعيارية طريقة شخصية لتقدير الأشياء، وكلمة شخص لاتعني بالضرورة فردًا واحدًا، وإنما قد تعني مجموعة من الأفراد تجمعهم عناصر مشتركة، يعتقدون أنها الأنسب لهم مما هو موجود في بيئتهم. لكن هذا سوف يؤدي إلى زوال مفهوم التاريخ المشترك، وظهور مفهوم الشخصية المشتركة ذات الأهداف الظرفية المحددة بدقة، لكن هذه الأهداف تبقى ظرفية مهما طال زمنها؛ لأنها لا تقوم على أيديولوجية، وإنما تقوم على مصالح مشتركة، وسواء تحققت الأهداف أم لا، فإن الشخصية المشتركة مصيرها للزوال، وبعدها يتجه كل فرد من مكوناتها للبحث عن نواة مركزية أخرى، تتماشى مع تقديره للأشياء المحيطة به.
ثامنًا: لقد كان لفلسفة نيتشه الأثر البالغ في الخطاب الفلسفي الغربي المعاصر، وقد عبرت جملة من التيارات الفكرية الفلسفية عن ذلك في أفكارها ومواقفها، ففي الفلسفة الوجودية عند كل من ”مارتن هيدجر”و”جان بول سارتر”، يمكن أن نلمس تشابهًا كبيرًا بين الفلسفتين النيتشوية والوجودية، من حيث النقد الذي وجهته كلتا الفلسفتين للتيارات الفلسفية التقليدية خاصة الاتجاهات الميتافيزيقية، التي أعطت للوجود شكلًا وطابعًا صوريًّا ورمزيًّا. كما غيبت هذه الاتجاهات ” الحداثية ”الإنسان، وجعلت منه مجرد عرض لا قيمة له في الوجود. ويمكن تلخيص ذلك في تأكيد كل من ”هيدجر” و”سارتر”أولوية العالم الأرضي والوجود الإنساني على العالم الميتافيزيقي، وهذا يعدّ اختراقًا صارخًا، كما كان يفعل نيتشه من خلال الجينالوجيا والمطرقة لتحطيم كل التيارات الفلسفية الميتافيزيقية، بما فيها التأويلات الدينية؛ مما أسس لتيار ما بعد الحداثة، وتعد ما بعد الحداثة أسلوبا فكريًّا يشكك في المفاهيم التقليدية للحقيقة والعقل والهوية والموضوعية، وفي فكرة اتجاه العالم نحو التقدم والتغير، وفي القص الشمولي والتفسيرات النهائية.
ويرى فكر مابعد الحداثة أن العالم على عكس أنماط التنوع، أي أنه عبارة عن مجموع الثقافات غير الموحدة، أو التفسيرات التي يتولد عنها درجات من التشكك في موضوعية: التاريخ، الحقيقة، المفاهيم، معطيات الطبيعة، ثبات الهويات. لقد تباينت مواقف الفلاسفة حول مفهوم مابعد الحداثة، لكن فلسفات مابعد الحداثة، على اختلافها وتنوعها، كانت تعبر عن السخط والتمرد على التقدم التكنولوجي في المجتمعات الصناعية، وعن العقلية الأداتية التي أتت بها الحداثة الأوربية منذ عصر النهضة، لكنها ازدادت بشكل كبير خلال الفترة (1850-1950). فيعد الشك في المعرفة القاعدة الأساسية التي تستند إليها مابعد الحداثة في نقد الحداثة، فتلك المعرفة هي التي مكنت المجتمعات الغربية من الدخول إلى مايطلق عليه مجتمع مابعد الصناعي، الذي بدأ مع نهاية الخمسينيات من القرن العشرين.
تاسعًا:توصلت الدراسة إلى أن مشروع نيتشه الفلسفي هو إدخال مفهومي المعنى والقيمة إلى الحقل الفلسفي، لذلك ربط الجينالوجيا بالفيلولوجيا، بهدف الكشف عن معاني الألفاظ والدلالات والمفاهيم والمعاني التي قد تخفيها المقولات الأخلاقية، واستخدم الجينالوجيا كوسيلة للتنقيب والكشف عن حقيقة ومصدر القيم. وبهذا تكون الجينالوجيا وسيلة يمكنها الكشف عن أعراض المرض والانحطاط الذي أصاب الغرب، كما تعدّ الطريقة المناسبة لرد الاعتبار للقيم الأخلاقية التي عرفت انحرافات خطيرة بفعل التأويل: الميتافيزيقي، الديني، المفارق للقيم، الذي أفرغها من معناها الوجودي.
ومن ثم، فإن النقد الجينالوجي عند نيتشه يسعى إلى تجاوز الميتافيزيقا، التي تمثل لديه العنوان الكبير للانحطاط أو علة المرض الحديث للغرب؛ لأن الميتافيزيقا تتخذ عدة أشكال وتعد الأخلاق جزءا مهما منها، وتصطنع قيما مزيفة للواقع، وتتعالى عليه، أي أن القيم المثالية تهدف إلى إخفاء وطمس مظاهر حقيقة الوجود.
عاشرًا: توصلت الدراسة إلى أن نيتشه قد أثر في فوكو في الأركيولوجيا الخاصة بالأرشيف المعرفي، فكما كانت الجينالوجيا عند نيتشه محاولة للبحث والتنقيب في حقائق أصول ونشأة وتطور القيم، كذلك كانت الأركيولوجيا عند فوكو، التي تعدّ محاولة تسعى إلى كشف النقاب عن بعض الجوانب المخفية من تاريخ الفكر الفلسفي الغربي الحديث الذي كان يدعي التنوير والحداثة، فهي تكشف بعض الأوجه المناقضة للعقل والحضارة وحتى الإنسانية لدى الغرب. كما أثر نيتشه في مابعد الحداثة، حيث ترك عدة مشروعات خاصة بنقد التمركز الميتافيزيقي؛ الأمر الذي جعل نتاج كتابات ومفكري مابعد الحداثة يتمركز حول نقد ذلك الموضوع.حيث خلف نيتشه مجموعة كبيرة من الكتب التي اختزنت فلسفته وأفكاره وانتماءاته وتوجهاته الأيديولوجية، كما أشيد بتأثيره العميق في فلسفة القارة الأوربية وأدبها، خاصة في ألمانيا وفرنسا. ويندرج نتاج نيتشه الفكري تحت ما يعرف بفلسفة الحياة، ولقد أدت فلسفة الحياة، وخصوصا دراسات نيتشه، دورًا كبيرًا في خدمة الأيديولوجية الفاشية تأسيسًا وتبريرًا، كما كانت ذات تأثير فكري في فلسفات الوجودية اللاحقة.
حادي عشر: توصلت الدراسة إلى أنه من الصعب تحديد موقف فوكو من فلسفة مابعد الحداثة؛ لأن فلسفته يصعب تصنيفها، ويرجع السبب في ذلك ليس فقط لاختلاف الباحثين في قراءتها، وإنما لإسهام الفيلسوف نفسه بتقديم أكثر من تصنيف لفلسفته تحت دعاوى عديدة، منها القطيعة ومنها الحق في الاختلاف. إن فلسفة فوكو ترتبط بوشائج عديدة بما بعد الحداثة، خاصة من جهة علاقتها بـ نيتشه وهيدجر، ونقد العقل والكلية، والتشاؤمية التي تصل إلى حدّ العدمية، ورغم ذلك، عندما سئل ”فوكو” عن علاقته بما بعد الحداثة، فقد قدم جوابا إنكاريا يدعو إلى الدهشة، حيث قال: ”ليس لي علم بذلك”. وكان فوكو يعد من أشهر البنيويين رغم إنكاره الانتساب إليها، وسواء قبل التسمية أو لا، فإن البنيوية تعني في الفلسفة الحفر في الأعماق للبحث عن بنية خفية يضعها الفيلسوف أمامنا، كما فعل فوكو في حفرياته، وهي تظهر فكرة وجود ذات فاعلة، والبنية التي تحكمها هي الأساس.
وقد عدّ فوكو نفسه مفتاحًا لقراءة الزمن الحاضر، وكانت الأفكار لديه غزيرة، وتعددت إسهاماته المعرفية، وتبنت وسائل الإعلام بعض أفكاره؛ الأمر الذي ساعد على انتشارها، وخروجها من الحيز الأوربي ووصولها إلى مجتمعات أخرى مختلفة الثقافة والإرث الفلسفي؛ لذلك كانت تأثيراته متعددة الجوانب، وكان حاضرا في كتابات مختلف المفكرين المعاصرين. لقد دعا فوكو إلى ما أطلق عليه فن الوجود من خلال عدّ الأخلاق ممارسة واعية للحرية، وأنا الفرد من خلال حريته والمساحة المتوفرة لديه يمكنه أن يجعل من حياته تحفة فنية. وهناك علاقة قوية بين أعمال فوكو وأعمال نيتشه.
وترى الدراسة أن فلسفة فوكو تنتمي إلى مابعد الحداثة؛ لذلك تأثر فوكو بفلسفة نيتشه التي تعد المرجعية الأساسية لفكر مابعد الحداثة، وأن لنيتشه الذي هو البنية الأساسية لما بعد الحداثة الأثر الأساسي في فلسفة فوكو.
وأخيرًا.. لقد ذهب نيتشه في تمرده إلى أقصى مداه، وبطريقة جديدة لا هوادة فيها، تقوم على التحطيم والتفكيك، والحفر في الجذور الخفية، أما النزعة الإنسانية التي ابتدعها التنوير، فهي ليست إلا صنما جديدًا من حيث لا تشعر، فالتنوير من وجهة نظره متهم بل مذنب؛ لأنه وقف في الطريق في أثناء صراعه ضد الأصنام الميتافيزيقية. فطور المنهج الجينالوجي متضمنًا السيكولوجيا والبحث التاريخي، كأدوات لكشف الدوافع الضمنية والدائمة، وربما كان أكثر العناصر جدلًا في نسق نيتشه عن النقد الجينالوجي هو أطروحة أن البشر لديهم أساسًا إرادة القوة.
تلك الأفكار كانت ذات آثار سلبية في الأفراد والمجتمعات، وكانت لها أصداء واسعة، وهناك من ذهب في نقدها إلى عدّ نيتشه رجلًا مجنونًا، أتى بتمرده كي يحمل التطرف والعنف على هيئة أفكار فلسفية، وأن كل أفكاره غير منطقية، وخيالات لا وجود لها إلا في عقله الباطن، وما جاء به أدنى من أن يُصنَّف ضمن الفكر الفلسفي، وأنه أضر بالإنسانية، وأجرم في حق الفلسفة والفلاسفة.
لكن بغض النظر عما تتضمنه الآراء من موقف نيتشه الموسوم بالتمرد، فإننا لا نختلف على الحكم بأنه أثر بشكل أو بآخر في التاريخ، وسوف يظل أحد أهم الفلاسفة في تاريخ الفلسفة الحديث.