Search In this Thesis
   Search In this Thesis  
العنوان
التماسك النصي في شعر المرض:
المؤلف
عبد الهادي، هدى عبد المحسن.
هيئة الاعداد
باحث / هدى عبد المحسن عبد الهادي
مشرف / أحمد هندي
مشرف / هند رأفت
مناقش / هند رأفت
الموضوع
شعر المرض. السبك
تاريخ النشر
2017.
عدد الصفحات
449ص. :
اللغة
الإنجليزية
الدرجة
ماجستير
التخصص
الأدب والنظرية الأدبية
تاريخ الإجازة
1/1/2017
مكان الإجازة
جامعة عين شمس - كلية الآداب - اللغة العربية
الفهرس
Only 14 pages are availabe for public view

from 449

from 449

Abstract

بسم الله، والحمد لله فاتح الأبواب وملهم الحكمة والصواب، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ناصر الحق بالحق والخاتم لما سبق والهادى إلى الصراط المستقيم صلاة دائمة إلى يوم الدين.
وبعد،
تدور جلّ الدراسات الإنسانية إن لم يكن كلها حول خبرات الإنسان وتجاربه؛ وذلك لتقييمها وتحسينها والاستفادة منها فيما هو قابل؛ حتى إن الدراسات التي تتخذ من غير الإنسان محورًا وهدفًا لها، لا يوجهها حقيقة إلا الرغبة الإنسانية في فهم هذه المسائل واستغلالها لتصب في النهاية في صالح الإنسان ونفعه بشتى الطرق الممكنة. وربما لا أغالي حين أقول إن تجربة المرض من أهم التجارب والخبرات التي وجّه الإنسان إليها اهتمامه من قديم، حتى الآن. وكانت الروافد الأساسية التي تغذي هذه التجربة هي مجالات الدين والأدب والطب. وكان طبعيًا أن يسبق الدين والأدب الطب في معالجة التجربة وفي التعامل معها؛ ذلك أن الدراسات الطبية تبغي تقديم العلاج، في حين أن الأدب يبغي تأمل التجربة والبحث في حدودها المعرفية، فضلًا عن الإجابة - عبر المرور ببرزخ المرض - عن كثير من التساؤلات الوجودية.
وقد طالعتنا تجربة المرض فى أعمال إبداعية متناثرة من القديم إلى الحديث. ولعل أول ما يتبادر إلى الأذهان إذا ما ذكرت معاناة المرض تجربة ”أيوب” عليه السلام مع الداء الذى سكت القرآن عن تسميته، متجاوزًا تلك التسمية إلى الحديث عن ردة فعل هذا الإنسان المبتلى.
وجاء امرؤ القيس ليتوجع من مرضه - الذى ألمّ به فى أرض الروم- فى قصيدته التى يقول فيها: (بحر الطويل)
وَمَا خِلْتُ تَبْرِيحَ الحَيَاةِ كَمَا أَرَى تَضِيقُ ذِرَاعِي أَنْ أَقُومَ فَأَلْبَسَا
فَلَوْ أَنَّهَا نَفْسٌ تَمُوتُ جَمِيعَةً وَلَكِنَّهَا نَفْسٌ تُسَّاقِطُ أَنْفُسَا
وَبُدِّلْتُ قُرْحًا دَامِيًا بَعْدَ صِحَّةٍ فَيَالَكِ مِنْ نُعْمَى تَحَوَّلْنَ أَبْؤُسَا
ثم حكى المتنبى عن الحمى - التى زارته- وما فعلت به فى قصيدته التى يقول فيها: (بحر الوافر)
وَزَائِرَتِي كَأَنَّ بِهَا حَيَاءً فَلَيْسَ تَزُورُ إِلَّا فِى الظَّلَامِ
ومن التجارب المبكرة التي عالجت تجربة المرض أبيات الجليس بن الحباب التي ذكرها د.شوقي ضيف في كتابه الفكاهة في مصر ، وهي:
طَبِيبٌ طِبُّهُ كَغُرِابِ بَيْنِ يُفَرِّقُ بَيْنَ عَافِيَتِي وَبَيْنِي
أَتَى الحُمَّى وَقَدْ شَاخَتْ وَبَاخَتْ فَرَدَّ لَهَا الشَّبَابَ بِنُسْخَتَيْنِ
وَدَبَّرَهَا بِتَدْبِيْرٍ لَطِيْفٍ حَكَاهُ عَنْ سنَانَ أَوْ حنينِ
وَكَانَتْ نَوْبَةً فِي كُلِّ يَوْمٍ فَصَيَّرَهَا بِحَذَقٍ نَوْبَتَيْنِ
ومع ذلك، فهذه النماذج التي تصوغ التجربة الذاتية للشاعر المريض أو الأديب المريض تعد نماذج محدودة في الأدب العربي- لاسيما القديم؛ ذلك أن جل الحديث عن تجربة المرض شعرًا جاء متصلًا بتجربة الموت، كما جاء على لسان آخرين ممن هم على صلة بالمريض وفي وقت لاحق للتجربة، فيما يعرف بقصائد الرثاء، كما هو الحال في رثاء ابن الرومي لابنه محمد، وقصيدة صلاح عبد الصبور ”طفل” وعلاء خالد في مجموعته الشعرية ”تصبحين على خير” .
ومع ذلك، فقد لوحظ أن شعراء من شعراء العصر الحديث قد أفردوا للمرض قصائد؛ فاستحق هؤلاء أن يعاد النظر فى نتاجهم الشعرى الذى أفرزته تلك المعاناة من هذه الزاوية المحددة. أذكر من هؤلاء إجمالًا: أبي القاسم الشابى ، ومطران ، ومعروف الرصافى ، وعدنان الصائغ ومحمد عدنانى .
واستغرقت تجربة المرض جماعة من الشعراء؛ فخصصوا لها دواوين كاملة، منهم بحسب الترتيب الزمني: بدر شاكر السياب ، وأمل دنقل وحلمى سالم .
وفضلًا عن هذا الإنتاج الشعرى، ظهرت عدة أعمال سردية لكتاب معاصرين كان المرض موضوعها والمحرك الأساسيَّ للأحداث والشخصيات فيها والقاعدة الدلالية لنصوصها؛ منها: ”يوميات امرأة مشعة” لنعمات البحيرى، و”لوكيميا” لأحمد الدوسرى، و”بحجم حبة عنب” لمنى الشيمى ، و”ساقي اليمنى” و”سبعة أيام فقط” لوائل وجدي، و”أَرْقُصُ” لسهير صبرى، و”وصمة الفصام” لحسين عبد الجواد، و”استئصال” للطاهر بن جلون، و”كلبى الهرم كلبى الحبيب” لأسامة الدناصورى ، و”أوقات للحزن والفرح” لابتهال سالم ، و”في مديح الألم” لدكتور سيد البحراوي و”حافة الروح” لصفاء عبد المنعم .
هذا التكثيف الفني والتركيز على هذه التجربة كان وليد العصر الحديث؛ وهو ما يطرح جملة أسئلة، منها: هل ثمة أسباب لذلك الانفتاح على هذه التجربة؟ وهل ثمة خصائص جامعة لهذه الأعمال المشتركة في الموضوع؟ وهل يصلح هذا الأدب المكتوب عن تجربة المرض ليؤلف جنسًا مستقلًا بنفسه كأدب الاغتراب والغربة، وأدب السجون وأدب الرحلات؟ لا أدعي تقديم إجابة وافية جامعة عن جملة هذه الأسئلة من خلال هذه الأطروحة، بيد أنني أرجح أن تجربة المرض في العصر الحديث أخذت في الحلول محل تجربة الموت قديمًا. ربما لم يعد أديب العصر الحديث يهرب من الموت بقدر ما يفر من المرض الذي أخذ يتشكل – عبر أنواعه الكثيرة وانتشاره الواسع في هذا العصر، وإن حَظِيَ السرطان خصيصى بأعلى قدر من التمثل في هذه الأدبيات – في صورة وباء يطول الجميع. وربما تحللت صورة الموت الغامضة المجردة الغائمة إلى صورة عملية مادية أكثر وضوحًا: مرض يفقد الأعضاءَ الحيويةَ وظائفَها، فلا يعود الجسد مهيأً لاحتواء الروح؛ ثم النهاية الحتمية وهي الموت. وادعائي هذا يرجحه أن كثيرًا من القلق النفسي المسبب عن أزمة الشاعر والزمن والأسئلة الوجودية الضاغطة التي كان يعيا بها الشاعر القديم، والتي كانت تظهر في قصائده وهو يصوغ صوره الشعرية عن الموت – هذا القلق النفسي قد انتقل إلى الشاعر المعاصر وهو يرسم صورته الشعرية عن المرض. إذن لم يعد الموت في العصر الحديث يهجم فجأة على الناس كما كان يحدث قديمًا، بل أصبح له طرقٌ معروفة وسبلٌ معلومة، ربما أهمها المرض؛ فاستدعى ذلك من الشاعر المعاصر الوقوف على تجربة الجسد المتداعي.
ومن هنا كان اختياري أن أخصص هذه الأطروحة لدراسة تجربة المرض في الأعمال الشعرية للسياب ودنقل وحلمي سالم، آملة أن تصبح هذه الدراسة من الدراسات البينية التي يفيد منها الأطباء والمرضى قبل غيرهم.
لقد صارت الدراسات البينية Interdisciplinary Studies من الدراسات موضع الاهتمام المتزايد في هذا العصر. وبالفعل سبق بعض الباحثين الغربيين إلى دراسات تجمع بين مجالي الأدب والطب/ المرض، وذلك لتحقيق التقارب - الحاصل بالفعل - بين العلوم المختلفة. أذكر من هؤلاء سوزان فليشمان Suzanne Fleischman في بحثها ”اللغة والطب” ”Language and Medicine” .
إشكالية الدراسة
تفرض علينا ثقافة الأسئلة أن نطرح الأسئلة حول كل شيء؛ فعبر ثقافة التساؤل يكتشف المرء نفسه وكل ما حوله. فإن كان هذا الشيء المسئول عنه وثيق الصلة بحياتنا وبطبيعة وجودنا الإنساني نفسه، اكتسبت الأسئلة حينها مزيدًا من الأهمية. والسؤال عن شعرية المرض مهم؛ حتى لا نعيد إنتاج أنفسنا، وحتى لا نقف على عتبة التوكل على أسئلة الآخرين. وعليه يبدو جليًا مما سبق أن تحليل تجربة المرض الشعرية هو جوهر إشكالية البحث.
وربما يكون إغراءً معقولًا أن تُخَصَّ أدبيات تجربة المرض بدراسة من منظور النقد النفسي أو التاريخي الذي يُوَفَّق فيه بين السير الحياتية للشعراء في مرحلة المرض وبعض المقولات النفسية من جهة وشعرهم المنتج في هذه المرحلة من جهة؛ وذلك للوقوف على تأثير التجربة عليهم من خلال شعرهم. ومع ذلك، فمثل هذه الدراسة تدرس النص من خارجه، وقد يفيد منها علم النفس أكثر مما يفيد بها الأدب المبتغَى دراسته.
لذلك، كان سبيلي المختار لمحاولة الوقوف على فهم هذه النماذج الشعرية لتجربة المرض هو الدراسة اللغوية – وتحديدًا من منظور علم اللغة الحديث -؛ ذلك أن الدراسات اللغوية من أهم الدراسات التي تدرس الأدب من داخله، علاوة على أن الأدبَ فن لغوي في المقام الأول؛ إذ ”الأدب لا يكون أدبًا بما فيه من أفكار، كما أن أدبية الأدب ليست منوطة بالقيمة الفكرية للنص، بل بالتركيب اللغوي الذي يصوغه ويقدمه لنا الأديب” ، وأخيرًا لأن دراسة لغة النص هي المدخل الحقيقي لأي دراسة نقدية تعمل أدواتها وإجراءاتها على النص.
لقد كان النص الأدبي عند القدامى مجالًا للدراسة الأدبية. أما في العصر الحديث، فلقد اُسْتُبعد النص الأدبي من مجالات علم اللغة، إثر اتجاه اللغويين – في أوائل القرن التاسع عشر - إلى دراسة اللغات واللهجات الحية، وفي ضوء ”إحساسهم أحيانًا بالتعالي على الدرس الأدبي، واعتبارهم إياه نوعًا من الدرس الانطباعي الذاتي الذي يفتقد في رأيهم موضوعية العلم وصرامته” . وعلى الرغم من ذلك، فلسرعان ما عاد اللغويون إلى النص الأدبي يخضعونه للدراسة اللغوية، متفقين ”على أن النص الأدبي هو نمط من أهم أنماط الاستعمال اللغوي مما يجعله حقيقًا بالاهتمام” .
وعلى هذا، فلما كان النص ”وحدة فاعلة ذات استراتيجية يتغياها منتجوه” ، كان هذا الطرح الذى أهدف من خلاله إلى دراسة التماسك النصى فى نماذج مختارة من شعر المرض ؛ للتعرف – من خلال الشق اللغوى لعلم لغة النص (السبك والحبك)- على استراتيجية التماسك بين الأجزاء المشكلة لتلك النصوص من جهة وبين النصوص -كاملة- المشكلة لتلك التجارب الإبداعية التى اتخذت من موضوع المرض إطارًا لها من جهة أخرى؛ ومن ثَم معرفة إلى أى مدى كان لهذه النصوص مقبولية نحوية دلالية، وإلى أي مدى اشتركت هذه التجارب فى بعض سمات التماسك النصى فيها واختلفت فى بعضها الآخر، مسترشدة –أحيانًا - خلال ذلك بالشق البراجماتى المرتبط بالآفاق الاجتماعية والنفسية للنصوص المختارة التى أسهمت، فى هذا التشكيل اللغوى.
لقد أصبح هناك مزيد اهتمام وعناية لمعالجة شتى الملفوظات التي تتضام تركيبيًا فيما يعرف بالجملة، ولكنه اهتمام موجه إلى علاقة هذه الجملة بغيرها من الجمل المؤلفة لمتواليات نصية . ولذا، فإنني لأتساءل – فيما يخص معالجة تجربة المرض شعريًا- عن أدوات التماسك الصريح والتماسك الضمنى التى تغياها هؤلاء الشعراء فى التعبير عن المرض بوصفه مثيرًا استدعى استجابة لغوية معينة؛ أملًا فى الوصول – خلال هذه الدراسة - إلى أسرار وسائل الربط النحوية والمعجمية والدلالية، وصولًا إلى فهم ذلك الأثر الفاعل الذى تتركه القضية الكبرى/ موضوع الخطاب لتلك النصوص فى نفس المتلقى؛ الأمر الذي يؤدي بنا إلى الرؤية المبصرة والشعرية للمرض.
ولا يفوتني الإشارة إلى أن اختيار متن الدراسة اللغوية من الشعر الحديث – الذى بالطبع تجاوز عصور الاحتجاج اللغوى بقرون - لا ينقص منها؛ ذلك أن علم اللغة لا يعتد فى عمله بالتفرقة بين قديم أو حديث، مادام ذلك القديم وهذا الحديث مدرجَين ضمن النشاط اللغوى الإنساني . كما أن المادة اللسانية فيما بعد الاحتجاج ”لا تستثني نصوص الأدب أو التاريخ أو الفقه أو الفلسفة أو الرياضيات أو الطبيعيات، فجميع ذلك وغيره مجال صالح لرصد التغييرات المعقدة التي تناهَبَت على اللسان العربي بنظمه الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية، وعلى الآليات التي تتحقق بها وظائفه التواصلية والتصورية والنصية” .
مجال الدراسة
وبعد أن حددت موضوع الدراسة وإشكاليتها، كان السؤال التالي عن المجال أو حقل الدراسة. وقد اخترت حقل اللسانيات الحديثة؛ لما يمكن أن يفيد به البحث وفق تصوري. وهو مجال متسع، وقد أصبح رائجًا بين الباحثين لاشتماله على نظريات ومناهجَ تقارب النص بأساليب تختلف عما كانت عليه المقاربات التقليدية، مثل: الحجاج وتحليل الخطاب والأسلوبيات اللسانية وعلم لغة النص. وبهذا الأخير تحديدًا طمحت إلى دراسة نصوص المرض الشعرية؛ ذلك أنه لما كانت طبيعة العلم – أي علم - أن يتعلق بالواقع الذى يصفه ، فقد ارتبط علم لغة النص بالنصوص كاملة - بوصف النص تشكيلة لغوية ذات معنى تستهدف الاتصال ، وبوصفه الوحدة الدلالية – محولًا بذلك اهتمامه عن الجملة التى حظيت باهتمام النحو القديم قرونًا طويلة، حتى فى ظل النحو البنيوى عند دى سوسير والنحو التوليدى عند تشومسكى.
منهج البحث
تستند الدراسة الحالية إلى نظرية علم لغة النص، التى تعد مصبًا لعلوم متلاقحة ومتمازجة – لغوية وغير لغوية، فى معيارين من المعايير النصية السبعة ، هما السبك والحبك. وبفضل هذا العلم، يمكن دراسة تلك النصوص المختلفة – ذات الصلات المتبادلة - لمجموعة الشعراء المختارين بوصفها خطابًا كليًا – له بناء محكم ويتغيا – أي الخطاب - الآخر (المتلقى) وله سياق - يحتاج إلى تحليل. ومما يميز هذه النظرية – وعلم اللغة الحديث عامةً - أنها خرجت بالنصوص من دائرة المعيارية والتعليمية التي كانت تحكم معظم الدراسات اللغوية التراثية. فأصبحت نظريات علم اللغة الحديث تدرس ما هو كائن ومتحقق، وتصفه، وتحلله، دون الاحتكام إلى قاعدة حاكمة سابقة على وجود النص.
وأستفيد فى دراسة معياري السبك والحبك في شعر المرض – بشكل أساسي - من جهود هاليداي ورقية حسن فى كتابهما (السبك فى الإنجليزية)، ودريسلر ودي بوجراند فى كتابهما (مدخل إلى اللغويات النصية) ووالدمر جتونسيكي في كتابه ( السبك في النصوص الأدبية: دراسة في الملامح النحوية والمعجمية في خطاب اللغة الإنجليزية) .
ولما كانت اللسانيات النصية تنتمى إلى حقل اللسانيات الوصفية التصنيفية، فسأقوم بوصف أدوات الربط الظاهرة وعلاقات الربط الدلالية التى تمثل البنية التحتية لهذه الأدوات - ثم تحليلها، وفي آخر الأمر تقديم نماذج تطبيقية على نصوص كاملة تجمعها . ومن بعد، أسعى إلى الخروج من هذه الجداول والتحليلات اللغوية بإضاءت نقدية أو أسلوبية عن النصوص موضع التحليل، وهو ما يصب – أخيرًا- في تحليل شعرية المرض. وقد كان الدافعُ لهذه المتابعة الأدبية لما هو لغوي صارم حرصي الأصلي على كشف شعرية المرض بالأدوات اللغوية أولًا، وبما تيسر من غيرها من الأدوات النقدية الأدبية ثانيًا، بالإضافة إلى رغبتي في إثباتَ أن الدراسة اللغوية يمكن أن تفيد الدراسة النقدية، وأن أي نقد إنما يبنى في الحقيقة على الدراسة اللغوية. ولكن لا يفوتني أن أؤكد أن هذه الإضافات النقدية الأدبية ليست من صميم الدراسة اللغوية، ”وإنما يجب رؤيتها بوصفها دراسة إضافية للدرسة اللغوية الأصلية عن الخطاب” .
مصطلحات الدراسة
تواجه اللسانيات عامة - وعلم لغة النص خاصة – في الوطن العربي تشعثًا وتعددًا وتفرقًا في المقابلات العربية للمصطلحات اللسانية الأجنبية. الأمر الذي دفع بعض الباحثين إلى القول بأن ”المصطلحات الألسنية تعاني من مشكلة التوحيد” . وهو أمر يمكن تفسيره في ظل عدم التناسب بين الأعمال العربية المعجمية الاصطلاحية ومثيلاتها الأجنبية، فضلًا عن الصراع الدائم بين إعادة ”تشغيل” المصطلحات التراثية القديمة وإلباسها الدلالات الحديثة للمصطلحات الأجنبية من جهة، و”اختراع وارتجال” أو سك مصطلحات جديدة تعبر عن هذه الدلالات الجديدة وترتبط بها . ثم إن إقبال الباحثين على سك مقابلات عربية للمصطلحات الأجنبية قد يعوزه – في رأيي- إما عدم كفاية ما يجدونه من العمل الاصطلاحي المنظم، وإما هوىً يدفعهم لأن يكونوا من المبشرين بهذه المقابلات العربية ولأن ترتبط أسماؤهم بهذه المقابلات العربية.
وقد أورد د. أحمد مختار عمر عددًا من المشاكل التي تعترض سبل ضبط الاصطلاح اللساني العربي من مشاكل تخص الاصطلاح العلمي بعامة، ومشاكل متوارثة من الاصطلاحات العربية القديمة ومشاكل وافدة من الاصطلاحات اللسانية الغربية. ومن ثم أخذ يعدد طرقًا من شأنها ضبط المنهجية وتوحيد المصطلح . ولكن لأنني في الأطروحة لم أعالج هذه المسألة بالتحديد، وإنما فرضت عليّ الحاجة الاستعانة بما هو موجود أصلًا من الزخم الاصطلاحي اللساني، فلقد اكتفيت بتحديد طرق العمل العريضة التي اعتمدت عليها في مصطلحات هذه الأطروحة، وهي:
1- إعطاء الأولوية للمقابلات العربية الشائعة، مهما كان في هذه المقابلات من مواطن ضعف أو قصور؛ ذلك أن المصطلح الشائع قد ثبَّت أقدامه وحقق الانتشار والمقبولية بين الباحثين والقراء.
2- إمكانية المراوحة بين مقابلين أو ثلاثة لمصطلح أجنبي واحد عندما تتحقق لدى الثلاثة مزية الانتشار؛ لاسيما أن هذه المشكلة – مشكلة إطلاق أكثر من مصطلح على مفهوم واحد – هي مشكلة أصيلة في اللغات كلها، أشير إلى ما يسمى بالترادف.
3- الالتزام بوضع المصطلع الأجنبي مقرونًا بمقابله العربي عند أول مرة يذكر فيها؛ ضمانًا سهولةَ الفهم وصرفًا أيَّ غموض محتمل، بالإضافة إلى تخصيص مسرد بالمصطلحات الواردة في الدراسة قفوتُ به الخاتمة؛ ليسهل على مطَّلع الرسالة الوصول إلى مواضع ذكر هذه المصطلحات.
حدود الدراسة ومادتها
أعمد في هذه الأطروحة إلى دراسة القصائد المعاصرة التى اتخذت من المرض إطارًا لها ، وذلك من خلال دواوين مختارة- لثلاثة شعراء- مثلت عينة صالحة لهذه الدراسة، وهى:
- المعبد الغريق: بدر شاكر السياب.
- منزل الأقنان: بدر شاكر السياب.
- شناشيل ابنة الجلبى وإقبال: بدر شاكر السياب.
- أوراق الغرفة 8: أمل دنقل.
- مدائح جلطة المخ: حلمى سالم.
- معجزة التنفس: حلمى سالم.
وأشير إلى أن تأريخ قصائد السياب وأمل دنقل كان عاملًا مساعدًا في اختيار قصائد الشاعرين - عن المرض - الأولى بالعناية والدراسة بالإضافة إلى العامل الأصلي وهو الاحتكام إلى موضوع النصوص والتجربة الفنية فيها.
طبيعة العينة الشعرية المختارة
تميزت العينة الشعرية المختارة بنوع من التقاطع والتقارب غير المتعمد. فالقصائد موضع الدراسة من إنتاج ثلاثة شعراء ينتمون – وفقًا لتقسيم الشعرية العربية – إلى مرحلة الشعر الحديث. اثنان منهم من شعراء التفعيلة - أعني السياب ودنقل -، أما الثالث فهو من حاملي لواء قصيدة النثر وأحد رواد جماعة (إضاءة 77)، أعني حلمي سالم. وزمن قصيدة النثر العربية شديد القرب من زمن شعر التفعيلة أو هو اللاحق المباشر لها (سنة 1960م)، حتى أن نفرًا من شعراء التفعيلة تحولوا إلى قصيدة النثر أو زاوجوا بين التفعيلة وقصيدة النثر كما حدث مع محمود درويش.
إن شعراء الدراسة من شعراء الحداثة، بما تعنيه من تجاوز دائما لما هو مستقر وتخطيه إلى جديد مجهول. هذه الحالة الدائمة من عدم الاكتفاء بالحالي الذي اعتاد الشاعر عليها والتطلع إلى القادم – كان يصحبها شد وجذب، ما بين منافح ومهاجم، فتعود بجمهور المثقفين كل حين إلى أزمة الأصالة والمعاصرة.
وكما أحدثت القصيدة التفعيلية صخبًا وضجة في تباشيرها على يد علي أحمد باكثير والسياب ونازك الملائكة، فكذا كانت قصيدة النثر في بواكيرها عند علي أحمد سعيد (أدونيس) ومحمد الماغوط وسعيد عقل وأنسي الحاج، بل إن الموقف الذي أثارته قصيدة النثر من النقاد والرافضين لها كان أشد تأثيرًا وأطول مدة. وقد انطلقت القصيدة التفعيلية من رفض لما هو مفروض ومتوقع من الموسيقى العروضية الخليلية، وإنكار للقافية المألوفة الرتيبة. وهم في ذلك أعلوا من قيمة اللغة ودورها في إنتاج الشعر على الدور التقليدي الموروث للموسيقى والمستند إلى تعريف قدامة بن جعفر للشعر بأنه ”كلام موزون مقفى”.
واشتركت قصيدة النثر والقصيدة التفعيلية في ثورتهما على عروض الشعر العربي، وإن كان شعراء التفعيلة تركوا من العروض الخليلي ما تركوا – نظام البيت والشطرين والأوزان الكاملة والقافية - وأبقوا على التفعيلة بوصفها الوحدة الموسيقية الصغرى. أما شعراء قصيدة النثر، فلم تُبْقِ ثورتهم - تقريبًا - على شيء من القديم المألوف، لا موسيقى، ولا مجاز، ولا تركيب، فبدت وكأنها ثورة تتعمد تجريف التجربة الإبداعية من القديم المألوف، أو كأنها ثورة ضاقت بجملة ما كان موجودًا قبلها. وهو بالطبع ما ليس صحيحًا بهذه الصورة؛ إذ استلهم شعراء قصيدة النثر التراث وتناصوا مع النصوص المقدسة بالتضمين أو بالمحاورة.
وقد كانت المنطلقات لدى الفريقين مختلفة؛ لقد كان شعر التفعيلة ردَ فعلٍ إبداعي للمرحلة السابقة عليه، وكان معنيًا بالتمرد على الموسيقى في قوالبها المحفوظة المكررة . أما قصيدة النثر فلم تكن أزمتها التخلص من الموسيقى كليًا - وكأن الموسيقى هي الغاية من الشعر -، بل كانت أزمتها أكبر من ذلك، أو لنقل انصرف همها إلى البحث عن قالَب بكر يستوعب تجارب شعرائها وحاضرهم الأشعث، والبحث عن دلالة طازجة تفارق ما هو مصطلح عليه من مواضعات، وتقديم إيقاع يلائم هذه التجربة الطليعية ”إيقاع شديد التلاحم بالبنية الصياغية والدلالية، لا سابقًا، ولا لاحقًا لهما” .
لم يكن عدلًا من النقاد إذن – وكثير منهم كان مؤيدًا لتجربة الشعر الحر ومنافحًا عنها، بل كان بعضهم من شعراء التفعيلة - لم يكن عدلًا الترصد لها وتتبع عوراتها فحسب؛ فقط لأنها هجرت عروض الخليل جملة واحدة. وإنما كان حريًا بهم محاكمتها إلى معايير جديدة ومختلفة تتناسب والتقنيات والأدوات والوسائل الجمالية التي وظفها شعراؤها، والموضوعات التي تصدوا لها، وأهم من ذلك أن تكون محاكمة قصائد النثر في سياق العصر الذي أفرزها ”حتى لا يتحول الاتصال ببعض مناطق تراثنا ]إلى حجر عثرة يسبب[ استغراقًا فيها ومن ثم غرقًا بها” . وعلى أية حال، ربما سيظل النقاد الرافضون على موقفهم من قصيدة النثر، وإن تعاقبت الأزمنة؛ ”ذلك أن الرفض مؤسس على يقين بأن الحداثة بكل منجزاتها نوع من الإلحاد الثقافي والمعرفي، ونوع من العقوق للتراث يساوي (قتل الأب). وربما دخل الرافضون – دون تنبه – في سياق قوله تعالى: ﴿إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون﴾ (الزخرف22)”.
ولقصيدة النثر خصوصية، و”الخصوصية لا تعني التَمَيُّز، وإنما تعني التَمَايُز” . فهي ”جنس إبداعي محايد يجمع بين الشعر والنثر” ؛ إذ تقوم على الحرية أو التحرر من المفروض والمتوقع، وما يترتب على ذلك من التمرد على القوالب والقيم المستهلكة، وتحطيم الثوابت والمسلمات، والرغبة الشرهة في التجريب فضلًا عن الانغلاق على ذاتها ودوالها، والجنوح نحو الغموض المرهق بل القطيعة أحيانًا مع الماضي وكل أنساقه، وإن بدا هذا التفكير الأخير غرًا ساذجًا؛ لحتمية وجود الأب لأي مولود . ولكنها مع ذلك، لقيت رواجًا بين أوساط كثير من المثقفين؛ ربما لأنها تتناسب والعصر الذي ظهرت فيه والعصر الذي نعيشه، العصر الذي ”تتشوه فيه علاقة الأنا بذاتها، فضلًا عن تشوه علاقاتها بالآخرين” ، وربما لأنها تتجاوب وكل ما هو محيط بنا من واقع حضاري وواقع ثقافي ضبابي ومشوش تسمه عمليات الهدم والتحطيم المستمرة، وتغيير المعايير المستقرة، والتحولات المطردة في دلالة الأشياء والوعي بها، على نحو ربما يستعصي معه على كثير من الناس الإلمام بحقيقة ما يحدث حولهم أو جوهر ما يقدم إليهم يوميًا على ساحة الأنباء والأحداث.
ويبدو هذا حتى من خلال عناوين دواوينهم الشعرية، فالعناوين (مهمل تستدلون عليه بظل) لعلاء عبد الهادي، أو (حجر يطفو على الماء) لرفعت سلام أو (شمس في خزانة) للينا الطيبي أو (آية جيم) لحسن طلب أو (مدائح جلطة المخ) لحلمي سالم – كلها تؤشر للتمرد والسخط والإغراب وألم النتاقض والتعبير عن الهموم الفردية الذاتية في بحثها عن جوهر الوجود الحقيقي.
لقد رأى كُتَّابُ قصيدة النثر – ومن قبلهم فعل شعراء التفعيلة – أن العصر الذي يعيشونه لم تعد تعبر عنه أو عنهم – فيه - الأدوات القديمة، والتعامل المألوف مع اللغة، ونظرة الأجيال السابقة. فلقد ورث عالمهم ”من تاريخه القديم صورة الاستبداد والقهر، واستعار من عالم الغرب الحديث مظهر القيم التي أنتجتها آلة الحداثة التقنية دون تحكم أو ترشيد. وبذلك جمع كل المثالب في سلة واحدة... والمجتمعات ]وإن كانت تستقبل[ الهزيمة في صورة الانهيار السياسي – الاجتماعي – الاقتصادي، ]فإن[ الفرد يستقبلها – على مدى أبعد- في صورة الجنون وصورة التبعثر وصورة الانسحاق العبثي” .
ومن هنا، شرعت هذه الثلة من الشعراء – تحت سطوة الآن - تُحْدِث ما أسماه د. محمد عبد المطلب بفوضاهم الخلاقة، وذلك عبر اعتمادهم ”الوعي الحضاري من ناحية والنظام الجمالي من ناحية أخرى” ، ينتقون ما يظل صالحًا بعد التدمير والتشظي لتوظيفه في تجربتهم، يصنعون عوالمهم الخاصة من عناصر الشتات ومن التفاصيل المبعثرة، ويرجعون باللغة إلى مراحل لعب الإنسان البدائي بها أو مواضعته لها، يُعْمِلُون فيها تجاربهم - بوصفها المادة الخام لأي منتج إبداعي-، ويمزجون بين عناصرها، ويخرجون من ذلك بتشكيلات جديدة. وبهذا،لم تعد ”الكتابة عندهم بيت العالم ...]بل[ بيت الغريب الذي يبحث عن حضوره الآخر” .
عن الشعراء الثلاثة والملامح المشتركة
عوضًا عن سرد السيرة الذاتية المختصرة للشعراء الذين خصُّوا تجربة المرض بقصائدهم – وهو الأمر الذي يسهل على أي قارئ الاطلاع عليه مفصلًا- في مقدمات الدواوين وغيرها من الكتب التي تناولت سيرهم الذاتية، ربما من الأوفق بدلًا من ذلك الفعل التقليدي أن أركز هاهنا على ما بين هؤلاء الثلاثة من وشائج وعلاقات رابطة. ذلك أن إيثارهم تجربة المرض وتخصيصهم لها دواوين من أعمالهم، يرشح – أو هكذا أفترض – أن يكون بين الثلاثة تشابهات على مستوى حيواتهم وشخصياتهم. ومن تأملي لسير هؤلاء الشعراء، رأيت أنهم يتقاطعون في التمرد والرفض ، والتوجه السياسي، والمرض والأسلوب الأبيقوري في التعامل مع الحياة بشكل عام ومع المرض بشكل خاص. وسأفصل هذه الجوانب فيما يلي، متبعة الترتيب الزمني للجيل الذي ينتمي إليه كل منهم. ومسألة تقسيم الشعرية بحسب الأجيال وإن كانت لم تلق قبولًا من بعض المثقفين؛ بوصفها تصنيفًا زمنيًّا – لا فنيًّا – للشعرية، وبما أنها ”منهجية عجيبة في الكتابات النقدية حول الشعر خصوصًا ... حول ما يسمى بالأجيال، فهناك جيل الخمسينيات ثم الستينيات فالسبعينيات، ]وهي ما [ يكمن تحتها بصراحة شديدة موقف الحذف والاستبعاد وموقف التجميع القبلي والعشائري، ]حتى[ أصبحت المعايير النقدية خاضعة بالدرجة الأولى لعوامل العمر أو مراحل الصعود والهبوط للأسهم الاجتماعية والوظيفية والأهمية الخاصة غير الفنية لتيار ما يراد حذفه أو تعويمه على السطح” – أقول مع هذا إنها التقسيم الأكثر ثباتًا ووضوحًا عند الحديث عن السير الذاتية للشعراء الثلاثة، ومناطق التشابه الجامعة بينهم؛ بما أن ”التعريف بالجيل عقديًا يحمل معنى من معاني التصنيف السياسي/ الفني” ، فضلًا عن كونها تؤشر لعلاقات التقاطع والتقارب في الخصائص الجوهرية لمنجزاتهم الإبداعية من تمرد وموضوعات مشتركة (المرض).
التمرد والرفض:
كان التمرد والرفض قاسمًا جامعًا بين الثلاثة، سواء أكان تمردًا فنيًا أم كان تمردًا اجتماعيًا. أما السياب، فقد انتمى إلى جيل الخمسينيات. ولفظة الجيل في حد ذاتها تؤشر عند إطلاقها على مرحلة تحول سياسي وفني. أما التحول السياسي، فيخص تبعات حرب فلسطين 1948 التي عانت الأمة العربية كلها ويلات نتائجها، بالإضافة إلى تتابع انتفاضات الدول العربية ضد مستعمريها – مصر والسودان والعراق ضد الإنجليز ودول المغرب العربي ضد الفرنسيين وليبيا ضد الإيطاليين - استعدادًا للتخلص النهائي منهم، وهو سرعان ما يُتَرْجَمُ إلى حركات التحرر التي انتشرت في البلاد العربية، والتي ارتبطت تسمية جيل الخمسينيات بها. وقد دمغت هذه التحولات السياسية شعر السياب برومانسية ثورية تمردت على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الراهنة ونعي حقوق العراق المهدرة وخيره المحروم منه أهله ومستحقوه الشرعيون. وربما كان هذا التمرد هو الدافع إلى اختيار الشاعر الانتسابَ إلى الشيوعية – في شبابه – بمبادئها البراقة المغرية.
وكان التحول الفني الذي ارتبط اسم السياب ونازك به، هو الجنوح بالقصيدة العربية من الشكل العمودي إلى هذا الشكل الحر الذي يلتزم وحدة التفعيلة فحسب دون الالتزام بالبحر كاملًا. فكان السياب بذلك أحد المتمردين على الشكل التقليدي المقيد لدفقة الشاعر.
أما التمرد والرفض عند أمل، أحد شعراء جيل الستينيات، فقد كان تمردًا اجتماعيًا ووجوديًا أكثر مما كان تمردًا فنيًا. تمرد أمل على المدينة التي قتلت أخلاق القرية في مقتلها القمر، تمرد على حالة اللامبالاة والاستكانة لما هو واقع من أمور مرفوضة اجتماعيًا، تمرد على الدولة البوليسية والأنظمة الشمولية، تمرد على بطريركية الحاكم ووصاية الديكتاتور، تمرد على القرارات المصيرية المقوضة للإرادة العربية ورفض ما يسمى صلحًا أو معاهدةً.
لقد كان أمل في خصومات دائمة؛ لأن الحياة والبشر لديه يتلخصون عنده في جملة مبادئ صارمة لا ألوان لها سوى الأبيض والأسود، حتى إن المرض أعطاه ”نوعًا من التصالح والهدنة مع العالم والحياة” . بل إن المرض ”حقق ]له[ أمنية وهي التواصل مع الجزء الإنساني في الآخرين، ...]فبعدما كان[ يتعامل مع الأصدقاء والأشياء باعتبارهم مواقف ومبادئ وأفكارًا فحسب، يعني مواقف سياسية أو فكرية أو اجتماعية، ولم يكن يضع حسبانًا للجانب الإنساني فيهم، ]جاء [ المرض وجعله يتواصل مع الجانب الإنساني في الآخرين” .
وفنيًا، شكلت تناصاته التراثية العربية والفرعونية واللاهوتية تمردًا – في رأيي- على الاتجاه السابق له من زيادة الاستعانة بالوافد الغربي وترجماته وكثرة التضمين للأساطير اليونانية الدخيلة بشكل ما على ثقافتنا.
وأما حلمي سالم، المؤطر وثلة من أصحابه لجيل السبعينيات، فقد أحدث معهم نقلة نوعية في حركة الشعر العربي عبر المغامرات اللغوية التي تملكوا الجرأة للدخول فيها، كما ” كان مشغولًا طوال الوقت بمحاولة تأسيس قاعدة نظرية للإبداع عمومًا وللإبداع الشعري خصوصًا” . وصحيح أن قصيدة النثر قد ظهرت قبلهم، سواء في الغرب وفي المشرق، ”فأصدرت (جمعية كتاب الغد) ديوانًا شعريًا طليعيًا هو ديوان ”مدخل إلى الحدائق الطاغورية” للشاعر عزت عامر... فكانت قصائد هذا الديوان هي البداية الفعلية لقصيدة نثر مصرية شبه متخلصة من حالة الطفولة الشعرية التي كانت تعيشها قصيدة النثر في ذلك الوقت” . ولكنَّ هذه الفئة بالتحديد – التي ينتمي إليها حلمي سالم - جددت الدم في قصيدة النثر، أو وجَّهَتْها نحو طريق مختلف عن سابقه. فأخذ الشاعر ” يطلق رصاصه الحي الذي أصاب الذائقة القديمة بالفزع، فقابلوه بالرد أو التسخيف، كما قابله البعض الآخر من النقاد بالتجاهل مثلما فعل جابر عصفور على مدى عقدين” . وهو في هذا التمرد لم ينس أن يظل مرتبطًا بالأجيال السابقة، ارتباطًا ” لا يجعله متصلًا اتصالًا عضويًا بقدر ما كان محاورًا وانتقائيًا لمن تتصل بهم تجربته” .
وعلى المستوى الاجتماعي، كان حلمي سالم أحد الرافضين للتحولات التي شهدتها السبعينيات: الانفتاح الاقتصادي، وظهور محدثي النعمة من أصحاب الثروات مشبوهة المصدر، وحالة نصف النصر ونصف الهزيمة واتفاقية كامب دايفيد.
ولا أستطيع أن أغفل في سياق الحديث عن التمرد الجامع بين ثلاثة الشعراء، خصوصية علاقة التمرد بين حلمي سالم وأمل دنقل. إن قدرًا كبيرًا من تمرد حلمي سالم في أوائل حياته الإبداعية كان منصبًا على ما يمثله أمل دنقل من نموذج شعري يذوِّب السياسة والفن في مزاج واحد. هذا التمرد جعله يميل إلى أدونيس ومحمد عفيفي مطر، ويرفض بالجملة ما كان من إبداع أمل الشعري. بيد أنه بعد أن أسنَّ، وتقدم في العمر، أخذ يراجع موقفه وتمرده السابق من أمل دنقل، وأصدر دراسات بعنوان ”الموت في الفراش”، و”الحداد يليق بالشعراء .. وداعًا أمل دنقل” و”عم صباحًا أيها الصقر المجنح”، عدل فيها عن هذا التحامل السابق وقرر نهائيًا في الدراسة الأخيرة أنه ”اتخذ موقفًا سلبيًا] قبلًا[ من شعر أمل دنقل متهمًا إياه بالمباشرة، لكن مع اتساع ورحابة النظر صار يرى أن الشعر متعدد، وبدأ يدرك ما في شعر أمل من جمال فني لا يطمس الرؤية الفكرية، ومن رؤية فكرية لا تجور على الجمال الفني” .
التوجه السياسي:
يبدو واضحًا مما ذكرته للتو، أن هذا الرفض والتمرد كانت تحكمه عقلية مشربة بأفكار أيدلوجية واختيارات سياسية غيرِ مرضيٍّ عنها في مجتمعاتهم. وبالفعل كان السياب شيوعيًا شطرًا كبيرًا من حياته، وبسبب هذه الخلفية الشيوعية طورد، وفُصِلَ من عمله، وشُّرِّد هو وآله.
أما أمل دنقل، فقد كان معارضًا سياسيًا لما كان يهلل له آخرون في زمنه.
وأما حلمي سالم، فبعد أن كان ناصريًا تحول ليصبح ماركسيًا يساريًا منذ دخل الجامعة، وتعرض لبعض ما تعرض إليه اليساريون آنئذ من مطاردة وسجن.
المرض:
وجاء المرض ودَهَمَ كلًّا منهم، منهيًا حياته، فيما عدا حلمي سالم الذي زاره المرض مرتين: إحداهما نجا فيها، وأخرى قضت عليه. عانى السياب من مرض مجهول، قيل إنه السلّ، فسافر إلى لندن بسببه، وفُصِلَ من عمل بسببه، فعانى الفقر والغربة والمرض. أما أمل، فقد زاره السرطان، واُحْتُجِزَ على إثره في الغرفة رقم 8 من المعهد القومي للسرطان، وخُيِّل للناس ولأهله - بعد فترة - أنه شُفِي منه، وكان شريطةَ التأكد من هذا البرء مرورُ سنوات خمس بدون معاودة زيارة هذا الخبيث، لكنه سرعان ما ارتد إليه وانتكس انتكاسة أعقبها الرحيل. وخبر حلمي سالم المرض مرتين: الجلطة التي أفرز فيها شعرًا مميزًا ومختلفًا إلى حدما عن شعر سابقيه في المرض، ثم سرطان الرئة الذي اُحْتُجِزَ على إثره في مستشفى الجلاء للقوات المسلحة، فزاوج في شعر هذه المرحلة بين المرض وعلاقة الشعب الثائر - بعد أحداث 25 يناير 2011م – بالقوات المسلحة التي انشقت صورتها لديه في صورتي الضابط الطبيب حامل أسباب الشفاء والضابط المشتبك - اشتباكًا عنيفًا ومسلحًا - مع الجمهور الثائر.
الدراسات السابقة
بعد البحث ، لم أعثر على دراسة عربية عنيت بدراسة شعر المرض دراسة نصية أو دراسة تناولت اتساق هذه النصوص وانسجامها، فضلًا عن أى دراسة اهتمت بدراسة هذا الشعر من هذا المنظور إلا دراسة بعنوان ”شعر أمل دنقل دراسة فنية” لعاصم عبد الله متولى تعرض فيها لمرض أمل وقارن بين تجربة مرضه وتجربة مرض السياب فيما يمكن أن يدخل تحت الدراسة التاريخية، ومقالة قدّم بها د.جابر عصفور لديوان حلمى سالم ”مدائح جلطة المخ” بعنوان ”شعرية المرض” ، ومقالة كتبها د.جابر عصفور عن تجربة المرض لدى أمل دنقل فى مجلة العربى وضمنها كتابًا مع مقالات أخرى عن أمل دنقل وصلاح عبد الصبور ومحمود درويش .
ثم إنني وجدت باحثين ممن تناول الأعمال الشعرية لهؤلاء الشعراء- الذين اتخذوا من المرض موضوعًا لقصائدهم وإطارًا لها- قد أدرجوها تحت ما يسمى بصورة الموت أو شعرية الموت؛ منها: ”تشكيل صورة الموت فى شعر أمل دنقل” لجمال محمد عطا، وقد وفق الباحث فى عرضه النقدي لصورة الموت الإيدلوجى والسياسى فى قصائد الشاعر، ولكني لا أوافقه فى إدراجه تجربة المرض عند أمل دنقل تحت ما أسماه بصورة ”الموت الطبيعى”، وكذلك الأمر مع ”بدر شاكر السياب ثورة الشعر ومرارة الموت” لهانى الخير. وكلتاهما - على أية حال – دراسات لم تتعرض - من قريب أو بعيد - لدراسة النصوص دراسة لغوية تفيد منها فيما بعد في إنارة تجربة المرض؛ فكانت الأولى دراسة للصورة، وكانت الثانية مما يدخل تحت النقد التاريخي.
أما بالنظر إلى الدراسات السابقة التى اهتمت بالتنظير لعلم لغة النص أو تلك التى اضطلعت بالتطبيق لإجراءات علم لغة النص – لاسيما معيارى السبك والحبك- على نصوص شعرية أو نثرية، فهى كثيرة ثرية عربية وأجنبية، ولكنها لا تتقاطع والدراسة إلا في الإجراءات النظرية المشتركة بين باحثين كثر. وقد ألزمت نفسي العزيمة في الاطلاع على قدر معقول منها والإفادة منها في تكييف الأساس النظري المختار لهذه الدراسة؛ كونه الأساس الذي تنبني عليه الدراسة التطبيقية.
بناء الدراسة
تأتي هذه الأطروحة في مقدمة يتلوها بابان، يعقبهما خاتمة، ومسرد للمصطلحات الأجنبية الواردة في الأطروحة وأخيرًا ثبت بالمصادر والمراجع.
المقدمة:
وفيها استهللت بتقديم موجز عن أهم الأعمال الشعرية والنثرية التي تعرضت لتجربة المرض، ثم عرضت لإشكالية البحث، ومجال الدراسة والمنهج المقتفى فيها. تلوت ذلك مباشرة بالحديث عن حدود الدراسة والمادة المختارة وطبيعتها، مع نبذة عن مبدعى النماذج المختارة واتجاهاتهم- لاسيما فيما يخص المرحلة التى أفرزت هذا النتاج الشعرى المدروس – لبيان مدى ارتباط التجربة الإبداعية لديهم بتجربة المرض. وأخيرًا ناقشت الدراسات السابقة – على قلتها- واختتمت بعرض سريع لهيكل الدراسة.