Search In this Thesis
   Search In this Thesis  
العنوان
الآثار الكلاسيكية دراسة أثرية لمنطقة أباميا بسورية خلال العصرين اليوناني والروماني\
الناشر
جامعة عين شمس .
المؤلف
بيطار ،غيد الياس.
هيئة الاعداد
مشرف / أبو اليسر فرح
مشرف / مصطفي محمد قنديل زايد
مشرف / أبو اليسر فرح
باحث / غيد الياس بيطار
الموضوع
العصر اليونانى. العصر الرومانى. الاثار الكلاسيكية.
تاريخ النشر
2011
عدد الصفحات
ص.:517
اللغة
العربية
الدرجة
الدكتوراه
التخصص
التاريخ
تاريخ الإجازة
1/1/2011
مكان الإجازة
جامعة عين شمس - كلية الآداب - الآثار اليونانية والرومانية
الفهرس
يوجد فقط 14 صفحة متاحة للعرض العام

from 519

from 519

المستخلص

تقع سورية في منطقة جغرافية تتوسط حضارات مختلفة ومتباينة تلاقت وتفاعلت على أرضها وقد سمح لها هذا الموقع اكتساب كثير من المؤثرات التي ولدت من تلاقي هذه الحضارات نتيجة لتزايد حركة التبادل التجاري عندما أصبحت سورية مركزاً للقوافل البحرية بين الشرق والغرب ومحطاً للقوافل البرية المتنقلة، حيث كانت اباميا تقع على هذا الخط ذهاباً وإياباً نتيجة لموقعها الاستراتيجي في قلب سورية.
وقد هيَّأ هذا لاباميا أن تنتقل من المراكز الوسيطة لمرور البضائع بين الشرق والغرب، لتتحول إلى عنصر فعَّال يشارك بمنتجاته الزراعية وصناعاته اليدوية، وإنتاجه الفني الراقي في النشاط الذي كان يتفاعل على الأرض السورية. خاصة بعد فتوحات الاسكندر وتحول سورية إلى جزء أصيل وهام من العالم الهللينيستي.
ففي سورية لعبت المدن الإغريقية التي انتشرت في كافة أرجاء البلاد. دوراً حيوياً في نشر الحضارة الإغريقية في ربوع الشرق. أما في اباميا فكان أجمل ما شاده الإغريق تلك الهياكل والمعابد لكواكب السماء. إضافة إلى الملاعب والمسارح والمدارج والمتاحف.
وقد ساهم في اغتناء حضارة اباميا تباين الشعوب التي هاجرت إليها وسكنتها من أصقاع الدولة السلوقية التي اتسعت رقعتها، واختلفت الشعوب التي انطوت تحت لوائها مثل الإغريق والمقدونيين والسوريين والبابليين والفرس وسكان أسيا الصغرى الخ. بكل ما يحمله كل شعب من تنوع في ثرائه الخاص وجوانب حياته وعاداته وتقاليده المتوارثة، ومعتقداته الدينية
فالسوريون الذين كانوا يشكلون السواد الأعظم من عدد أفراد المجتمع في اباميا – مثلاً – أعرضوا عن الديانة الإغريقية وظلوا يتمسكون بآلهتهم الشرقية ولغتهم الآرامية. وقد وجدت على اللوحات الفسيفسائية المكتشفة في اباميا العديد من العبارات الآرامية – السريانية. كذلك ظلوا يتعلقون بحضارتهم الوطنية القديمة. وظلوا يخضعون لحكم شيوخ القبائل وأمراء الأسر المحلية. وبدا هذا جلياً في طريقة حياتهم والتصميم المعماري لبيوتهم وقبورهم المتواضعة وتوابيتهم البسيطة، بالمقارنة مع بيوت ومدافن الارستقراطيين الإغريق وأصحاب الطبقات الحاكمة.
وقد تجلى كل ذلك بشكل واضح في مجتمع اباميا الذي حاول إيجاد توازن بين الحضارة الإغريقية وحضارة الشرق العريقة. وهكذا تحولت اباميا إلى مركز إشعاع حضاري هام
في هذه الدراسة كان الحديث عن تاريخ اباميا، وعن فنون العمارة، والنحت، والفسيفساء، وتطورها الفني ومن ثم عن الإسهام الحضاري الفعَّال لاباميا، مما أدى إلى استمراريتها عبر العصور.
أما بالنسبة للتاريخ. فقد تبوأت اباميا في العصر السلوقي مركزاً خاصاً نتيجة لموقعها الدفاعي الحصين بين الجبال من جهة ونهر العاصي من جهة أخرى لذلك طورها الإغريق وصنعوا منها مركزاً لترويض الفيلة القتالية التي أكثروا من استعمالها في الحروب، وكان لها عندهم مكان الصدارة ثم حولوها إلى معسكر يضم جميع قواتهم الحربية. إذ كانت تمثل خط الدفاع الأول في الجنوب. كما كانت نقطة انطلاق للقوات السلوقية التي تهاجم الممتلكات البطلمية وقد استخدمها (انطيوخوس الثالث) مرتين لهذا الغرض
في عصر كان النقل في نهر العاصي سهلاً. لأن مياهه الغزيرة. جعلت منه قابلاً للملاحة: وقد عزَّز من مركزها أيضاً وقوعها على طريق إستراتيجية للجيوش والقوافل، فمدوا لأجلها الرصيف الروماني القادم من القسطنطينية والمتجه إلى (دمشق) وما بعدها. وما زالت بقاياه في (سهل الغاب) حتى اليوم.

أي أن اباميا كانت حائزة على جميع العوامل السياسية والإدارية والدفاعية والاقتصادية الموجبة لبناء مدينة مثلها في موقعها الجغرافي الحالي.
كانت دولة السلوقيين في تلك الفترة عظيمة، لكن تاريخها كان طافحاً بأخبار الفتن والحروب، وتنافس أعضاء الأسرة المالكة على عرش الدولة السلوقية، إضافة إلى تنوع العصبيات والقوميات في المدن الكبرى، وهذا أدى إلى إضعاف العنصر الإغريقي (اليوناني) الذي كان دعامة السلوقيين. وقد حال كل ذلك دون بقائها في الحياة أكثر من 236سنة.
ففي العصر الروماني المبكر , كانت لاباميا مكانة خاصة عندما جعلوها قاعدة (ولاية سورية الثانية) وسموها سورية الطيِّبة (Syria Salutaria). وقد شهدت اباميا في هذا العصر قمة التطور الاقتصادي والسياسي، وخاصة في القرن الثاني وبداية القرن الثالث الميلادي. ووفد عليها عدد كبير من التجار الرومان لشراء حاصلاتها الزراعية وقد أدى هذا إلى ازدهار الطرق التجارية التي كانت تمر عبر اباميا فنما اقتصادها وساعد على توسعها بشكل يدعو إلى الإعجاب حتى صارت أكثر المدن ازدهاراً.
وبما أن الرومان قد اهتموا بكل ماله صلة بالدفاع لذلك رمموا أسوارها ودعموا قلاعها وأقاموا الجسور وزودوا اباميا بالمياه.. الخ.
وجعلوها قاعدة حربية للدفاع المكلف به الفيلق الروماني المرابط فيها تجاه الدول والشعوب الأسيوية كالأرمن في الشمال والفرس في الشرق والأعراب في بادية الشام. لذلك كانت اباميا ملآى بالثكنات، ومعامل الصناعات الحربية في العصر الروماني المتأخر وبعد أن قسم قسطنطين دولة الرومان عام 396م إلى دولتين شرقية وغربية واتخذ بيزنطة عاصمة للشرقية. مضت سنوات طويلة من السكينة والطمأنينة على اباميا فنعم سكانها بالراحة والهدوء، وانغمسوا في الترف واللهو حتى أن عدداً من قديسي النصارى شكوا مما كان عليه سكان اباميا في تلك العصور من النعيم والفسق وارتياد المسارح والملاعب. يشهدون تمثيل الروايات وعراك المصارعين واقتتال الوحوش مع الأسرى وغير ذلك من أسباب اللهو المعروفة عند الرومانيين. وبقي أمر اباميا مستقراً إلى أن داهمتها نكبتان، الأولى غارات الفرس، والثانية الزلازل الأرضية فغدت اباميا مدينة خربة خاوية على عروشها حتى اليوم.
بالنسبة لفن العمارة في اباميا لوحظ أن قمة التطور المعماري ظهر وتجلى فيها، في العصر الروماني، وفي القرن الثاني، وبداية القرن الثالث الميلادي، مع بلوغ الإمبراطورية الرومانية قمة الازدهار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، فصبغت العمارة في اباميا بصبغة خاصة، وطبعت بسمات فنية فارقة نتجت من تلاقي الطرز والمميزات الفنية الكلاسيكية (الغربية) مع نظيراتها من المميِّزات السورية (الشرقية) أو (المحلية). وكان أثر هذا التلاقح أو التأثر والتأثير فريداً.
فقد نجح معماريو اباميا وفنانوها في تطويع العناصر الفنية الكلاسيكية (الغربية) بما يتلائم والتقاليد السورية المتبعة في بيئتهم المحلية، وبرعوا في إذابة الفوارق بينها. فظهرت الأساليب وفن العمارة في اباميا بشكل مميز. وفي هذا السياق يمكن القول: إذا كانت المدن الإغريقية في سورية هي إغريقية المنشأ، فإن حضارتها ليست كذلك إلى حد ما. فقد وجدت فيها الكثير من العناصر السورية، لأن الإغريق الذين استقروا سورية في العصر السلوقي انبهروا بكثير من مظاهر الحضارة السورية واستوعبوها. فمثلاً تتميز بعض الأعمدة المنثورة على جانبي الشارع الرئيسي في اباميا بأن بدنها مزين بأخاديد حلزونية متعاكسة الاتجاه، بعضها يتجه نحو اليمين، وبعضها يتجه نحو اليسار وقد أعطاها هذا مذاقاً فريداً ابتكره الفنان السوري وجعلها تختلف عن الأعمدة اليونانية الخالصة التي تظهر فيها الحزوز بأشكال مستقيمة من بداية العمود حتى نهايته.
كذلك اكتشف في اباميا مجموعة من التيجان لا تنتمي إلى الأشكال الكلاسيكية المعروفة كالتيجان الأيونية والكورنثية، وكانت من ابتكار الفنان السوري الذي كان قد استوعب فنَّ نحت التيجان عند الإغريق والرومان ثم أعاد إنتاجه بعد أن طوره وعدله وأنفذ تأثيره المحلي في كل حنيِّة من حناياها فنتج ما يعرف (بالتيجان السورية الكورنثية) التي تميزت بأن أوراق الأوكانتوس البارزة تحتل معظم مساحة التاج... الخ.
وكذلك المعابد فقد بنيت في اباميا بشكل أساسي على الطراز الهللينيستي في العصرين الإغريقي والروماني. لكنها اصطبغت بصبغة شرقية سورية محلية مثل وجود (المشكاوات) و(المحاريب السورية) (Syrian Niches) (والدعامات) التي تعكس الذوق الباروكي السوري. وكان أول ظهور لهذه المشكاوات المنحوتة في الجدار، وعلى جانبيها زوج من الأعمدة، في العمارة البوذية كذلك اختلفت المعابد السورية في نوع البناء وتخطيطه المعماري والطقوس الدينية التي كانت تمارس فيها، إضافة إلى وجود منحوتات لآلهة سورية مثل (زيوس هدد) (Zeus Hadad) و(أتارغيتس) (Athargaitis) وغيرهما من الآلهة المحلية.
بالنسبة إلى نوع البناء فقد تميزت المعابد السورية في اباميا بوجود الطريق المقدس (Via Sacra) العريض و (البوابات الضخمة) (Propylaeum) المؤدية إلى ساحة المعبد الواسعة أو (الفناء) (Forum) وكل هذا لم يكن يوجد في المعابد الغربية. لأن المتعبدين وخاصة في الاحتفالات الدينية في اباميا، كانوا من كافة طبقات الشعب وكانوا يسلكون (الطريق المقدس) بكثير من التبجيل والاحترام قبل دخول (فناء المعبد) الواسع عبر (البوابات الضخمة). لذلك كانت الحاجة ماسة لمثل تلك (الطرق المقدسة) العريضة (وأفنية المعابد الواسعة) لاحتواء الأعداد المتزايدة من المشاركين في هذه الاحتفالات الدينية التي تتطلبها الديانات السامية.
كذلك تميزت المعابد في اباميا بالتخطيط المعماري الذي لحقته الصبغة الشرقية. إذ كان يقام فوق منصة عالية (Podium) فيما يشبه شكل (الزاقورات) (Ziggurate) وقد حدث هذا بتأثير من عمارة بلاد الرافدين إضافة إلى وجود (المحراب) (Adyton) وهو حجرة صغيرة يوضع فيها تمثال الإله.
ووجود هذه المحاريب ظاهرة سورية خالصة. لأن الإغريق والرومان كانوا يضعون تماثيل آلهتهم فوق قواعد حجرية، لا داخل محاريب.
أما بالنسبة للنَّحت فيمكن القول: إنه لم يتبق لنا إلاَّ القليل مما كان موجوداً في اباميا بسبب الحروب والزلازل وأخيراً السرقة والنهب الذي حلَّ بها. مع ذلك يمكننا معرفة الملامح الرئيسية لفن النحت السوري في العصر الهللينيستي في اباميا بطريقة غير مباشرة. فسورية كانت مملكة هللينيستية، لذلك لا بد وإن سادت فيها الاتجاهات الفنية لكبار الفنانين الكلاسيكيين الإغريق أمثال:
بوليكليتوس، وسكوباس، وبراكسيتليس، وخاصة ليسيبوس، والذين انتشرت سمات فنهم عن طريق تلاميذ هذه المدارس الفنية الذين كانوا يورثون مهاراتهم في النحت من جيل إلى جيل.
لكن ما تبقى من تماثيل في اباميا تسِّجد فنَّ النحت السوري – الشرقي في العصر الهللينيسيي. فهي مثلاً تصور الشخصيات بالوضعية الأمامية. وهذه الوضعية ذات أصل شرقي سبق واستعملت في إيران وشمال وادي الرافدين خلال القرنين التاسع والثامن قبل الميلاد وتأثرت سورية بها وانتشرت في بقاعها. وهناك أكثر من رأي في هذه الموضوع. لكن بغض النظر عما قيل فإن التماثيل في اباميا تعكس الثنائية بين الكلاسيكية الإغريقية، وبين نظيرتها السورية الشرقية، وهي ثنائية تظهر بشكل خاص في الملابس حيث نرى الزيّ السوري السائد في إنطاكية وسلوقية واباميا يلف: هذه التماثيل وخاصة التونيك والأكمام والسروال والإيشاربات المطرزة ...الخ وإذا أخذنا اباميا مثلاً نرى أن السمة الشرقية والطابع المحافظ لتقاليد المجتمع السوري الشرقي يظهر بشكل واضح في التناقض الفاضح بين (مظهر اللباس الشرقي) و(مظهر العرى الغربي) فتماثيل اباميا جميعها ترتدي جلباباً يغطي الجسم كله بينما نرى بالمقابل التماثيل عارية تماماً في الغرب. وربما هذا يعود إلى طبيعة المجتمع الشرقي المحافظ في اباميا التي كانت مركزاً لأسقفية مسيحية.
لكن الطابع المحلي لفن النحت السوري يبرز بشكل خاص في التماثيل الدينية المرتبطة بالعادات المحلية. وتماثيل الآلهة بشكل يمكن أن نسميه (فنّ النحت في الولايات الإغريقية الرومانية في سورية) , أما لوحات الفسيفساء في اباميا فتضم أساطير المثيولوجيا السورية جنباً إلى جنب مع أساطير المثيولوجيا اليونانية – الرومانية إضافة إلى مواضيع تتعلق بالحياة اليومية تبيِّن أن اباميا تأثرت بما حولها، وتفاعلت مع (التطور الفني) الحاصل في بقية المدن السورية. وكان من نتائج هذا الإسهام الحضاري استمرارية اباميا عبر العصور. ويمكن أن نوضح هذا من خلال مقارنة بعض النماذج فمثلاً لوحة (فسيفساء الصيد) (Mosaique de chasées) التي اكتشفت في (قصر الحاكم) (تريكلينوس) (Triclinos) والمحفوظة في (Bruxelles) (Musées royaux d‘Art et d‘Histore) والتي تعج بعراكٍ لعديد من أجناس الحيوانات والجنود والصيادين والفرسان بأسلحتهم المتنوعة ولوحة (فسيفساء الصيد) المكتشفة في إنطاكية والتي تحمل الاسم نفسه (Mosaique de chasées) والمحفوظة في (Worcester Art Museum) وكذلك لوحة أخرى محفوظة في متحف اللوفر في باريس (Mosaique de Lowver, Paris) بالإضافة إلى عدة لوحات وردت متتالية في هذه الرسالة.
إذا قارنا هذه اللوحات مع بعضها البعض نرى كيف تفاعلت مختلف المكونات الموجودة في (لوحة الصيد) في اباميا، وأثرت وتأثرت في محيطها القريب والبعيد وهذا يدل على انتشار (الفكر الفني) وانتقاله، وكذلك يدل على التواصل بين فناني اباميا، مع الفنانين المعاصرين في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية. فالاختلاط المتعدد للحيوانات والبشر، وهذا الاندفاع والهيجان الذي نراه في لوحة الصيد في اباميا نفسه في جميع هذه اللوحات، حتى تشعر أن هذه اللوحات تكاد أن تعكس نفسها. لكن (التطور الفني) الذي حصل في اباميا يبدو أنه قطع أشواطاً سبَّاقة بالمقارنة مع بقية المدن السورية، وربما أبعد منها. فبينما نرى في لوحات اباميا نوعية الرسم الجيد، وجماله ودقته وإتقانه بالإضافة إلى روعة الخطوط وانسيابها وخاصة في رسومات الأشخاص والحيوانات والنباتات. نرى بالمقابل قلّة الجودة الفنية والبساطة، وعدم امتلاك الفنان في إنطاكية – مثلاً- القدرة على مجارات، ومواكبة (التطور الفني) الحاصل في اباميا. وهذا يدل على استمرارية الفن الذي نشأ في اباميا وتأثيره عبر العصور، الأمر الذي يشير إلى أهمية هذه المدينة السورية وإسهامها الحضاري الفعَّال لأن الكثير من مكونات وموضوعات لوحات الفسيفساء المكتشفة في اباميا استمرت لتنصبَّ فيما بعد في مكونات الأيقونات المسيحية كما رأينا.
وفي ختام هذه الدراسة يمكن استنتاج ما يلي:
لقد حاول السلوقيون في العصر الهللينيستي والرومان من بعدهم أن يصبغوا الحضارة السورية التي كانت قائمة قبلهم بالطابع الكلاسيكي لحضارتهم، فتوسعوا في إنشاء المدن وحرصوا أن تصبح مراكز إشعاع للتيارات الحضارية الكلاسيكية، ومنها اباميا واستخدموا اللغة اليونانية لغة رسمية. لكن ذلك لم يجمد اللغة الآرامية ولم يحيِّد الحضارة السورية المحلية التي سرعان ما نراها تتلاقح مع الحضارة الكلاسيكية الغربية الوافدة وتمتزج بها لتنتج تياراتٍ وليدة ذات طابع كلاسيكي وشرقي سوري.
فمثلاً نرى الملابس تتميز في سورية بأنماط فريدة تعكس التأثير الكلاسيكي إلى جانب الأزياء المحلية السورية وقد ظهر هذا بوضوح في بعض اللوحات الفسيفسائية التي اكتشفت في اباميا, حيث نرى الناس يلبسون الزي السوري مثل السروال والأكمام، العقود الطويلة ويرقصون الرقص الشرقي الذي يعتمد على تحريك وسط الجسم ورفع اليدين وتحريكهما في الهواء كما نراه اليوم تماماً.
وحدث الشيء نفسه في مجال العمارة عندما نجح معماريو اباميا وفنانوها في تطويع العناصر الفنية الكلاسيكية الغربية، بما يتلائم والتقاليد السورية المتبعة في بيئتهم المحلية.
وهذا ما حدث في (النحت) حيث نرى تماثيل اباميا تجسد فنَّ النحت السوري عندما تصور الشخصيات بالوضعية الأمامية ذات الأصل الشرقي وكذلك نرى (الدعامات) التي تعكس الذوق الباروكي السوري وقد أثر هذا كله في النهضة المعمارية وبخاصة العمارة الدينية والجنائزية في اباميا فاصطبغت بصبغة شرقية سورية محلية مثل وجود المشكاوات أو المحاريب السورية، والزاقورات، والمحراب.. الخ.
وبالرغم من الجهد الذي صرفه السلوقيون ثم الرومان للإبقاء على الطابع الكلاسيكي غالباً قوياً ومسيطراً فإن الطابع السوري الشرقي (المحلي) كان له الغلبة والسيطرة على مجمل فنون العمارة والنحت والفسيفساء في اباميا بشكل عام.
وقد أثبت ذلك أن السوريين في اباميا لم يكونوا مجرد متلقين لتلك المؤثرات الحضارية الكلاسيكية الوافدة إليهم. لأنه كان لديهم موروث حضاري كبير وراسخ منع من طغيان الكلاسيكية الغربية ووقف متصدياً لها صامداً في وجهها في موقف الند للنّد لذلك نراهم يطوعون تلك التيارات الغربية بما يتلائم وبيئتهم المحلية. فكان الناتج فناً فريداً تميزت به اباميا وتجسد، ليس فقط في العمارة والنحت وبقية الفنون الأخرى وإنما بشكل خاص في تلك اللوحات الفسيفسائية الرائعة والتي تعد موضوعاتها تصويراً واقعياً لما كان يتمتع به مجتمع اباميا من فنٌ عالي المستوى وعادات اجتماعية راقية ومعتقدات وتقاليد راسخة تعكس شخصية هذا الشعب الذي لم تستطع قوة الإغريق وجبروت الرومان أن يذوبوه في مجتمعاتهم.